بقلم : أحمــد عـز الديـن
ازدواجية المعايير عند الغرب لا تنتهي. ففي الأسبوع الماضي اعترفت الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان) بـما ترى أن مجازر جماعية ارتكبها الأتراك ضد الأرمن مابين عامي 1915 و1918م، أي منذ ما يزيد على ثمانين عاماً، في وقت كانت فيه منطقة أرمينيا خاضعة للنفوذ التركي ولم تكن وسائل الاتصال والإعلام حاضرة لتسجل ما جرى بالضبط، وهل كانت مجازر فعلاً نفذها الجيش العثماني أم هو قمع لمحاولة تمرد داخل أحد أقاليم الإمبراطورية العثمانية أم عمليات انتقام وحشية من الأرمـن تبعتها عمليات ثأر من أهالي المغدورين من الأتراك.
البرلمان الفرنسي ـ أو بمعنى أصح أقلية من أعضاء الجمعية الوطنية، إذ لم يحضر الجلسة حسبما أُعلن سوى 10% من النواب ـ تجاوز الاحتجاجات التركية وأعلن موقفه، فإذا كان ذلك الموقف نابعاً من رؤية إنسانية فماذا عما اقترفته القوات الفرنسية في الجزائر، عبر إقامة معسكرات للإبادة أزهقت فيها أرواح أعداد هائلة من النساء والأطفال والرجال بالإعدامات الجماعية، ومورست فيها عمليات تعذيب قاسية حتى الموت؟ وماذا عن المليون ونصف المليون شهيد الذين قتلوا في سبيل نيل الاستقلال في الجزائر؟ لماذا لا يعترف البرلمان الفرنسي بالممارسات الدامية في الجزائر، خاصة في ضوء التصريحات التي أدلى بها في الأشهر الأخيرة قياديون بارزون في قوات الاحتلال الفرنسي في الجزائر، اعترفوا فيها بالممارسات الوحشية ضد المواطنين الجزائريين. ومن ذلك ما اعترف به الجنرالان المتقاعدان جاك ماسو وباول أوساريس في الخريف الماضي من قيام القوات الفرنسية بالتعذيب النظامي للأسرى الجزائريين حتى الموت، والإقدام على امتهانهم وإعدامهم دون مبرر، وعلى الرغم من اعتراف الجنرالين السابقين بالمشاركة في تلك الممارسات المروِّعـة، إلا أنهما لم يقدما للمحاكمة، بينمـا جرت العام الماضي محاكمة شيخ تسعيني بتهمة متعلقة باليهود.
وإذا لم يجد النواب الفرنسيون الجرأة الكافية للاعتراف بما فعلوه في الجزائر وفيتنام ورواندا، فماذا عن جرائم الصرب في البوسنة وكوسوفا التى عايشها الفرنسيون الأحياء الآن بأنفسهم؟ وماذا عن الممارسات الوحشية التى يمارسها الصهاينة في فلسطين المحتلة ويراها الشعب الفرنسي وكل أعضاء البرلمان الفرنسي كل يوم؟
ولماذا لا يصدر قانون واحد في أي بلد غربي يدين مجازر دير ياســــين، وكفــر قاســم، وبحر البقر، وصابرا وشاتيلا، وقانا، والأقصى، والمسجد الإبراهيمي، وقتل الأسرى المصريين في سيناء.. وما حوته القائمة الطويلة من المذابح الصهيونية الوحشية، أو حتى مذابح الروس في أفغانستان والشيشان ؟
لماذا يطلبون منا نحن فقط أن ننسى ما يحدث لنا، وأن «نتسامح ونتسامى فوق الجراح، ونهجر نزعة الانتقام ونتطلع إلى المستقبل والسلام»؟ لماذا لم يُبلِّـغ البرلمان الفرنسي وقبله الكونجرس الأمريكي والبرلمان الإيطالي تلك الرسالة إلى الأرمن؟ ولماذا لم ينطق أحد بهذه الكلمات أمام اليهود الذين ينبشون كل يوم صفحات التاريخ، ويبتزون بما فيها من كلمات ـ صحيحة كانت أم مزورة ـ الحكومات الغربية ويحصدون المليارات من الدولارات على شكل تعويضات؟
ولماذا لا تتحرك جهات رسمية وشعبية وفلسطينية ومصرية وسورية ولبنانية وأفغانية وشيشانية لدى تلك البرلمانات، فإمـا تحصل منها على اعتراف مماثل يمثل دليل إدانة للمعتدين، وإما ينكشف انحياز تلك البرلمانات وازدواجية المعايير عندها.
وقريب من ذلك موجة الاعتذارات التي تعلنها الحكومات الغربية، حتى إن بعضها اعتذر لبائعات الهوى بسبب سوء التعامل معهن أثناء الحرب العالمية الثانية، لكن أحداً لم يفكـر أن يعتذر للعرب والمسلمين عن تاريخ أسود مليء بالحقد والضغينة وقسوة المعاملة ووحشيتها.
من الواضح أن التسامح يُفرض هذه الأيام على الضعفاء، أما الأقوياء فيأخذون حقوقهم.. ولو بعد حين.
ü ü ü
رُبَّ سجن
بعد أن تولى الرئيس المصري السابق أنور السادات الحكم لجأ إلى وسائل عدة لكسب الشعبية.. كان من بينها أن ذهب بنفسه وأمسك المعول ليهدم أحد سجون طرة المشهورة في جنوب القاهرة.
عرف السادات أن السجون والمعتقلات كانت إحدى أبرز سمات حقبة عبدالناصر، فأراد أن يعطي إشارة عكسية. وقد هُدم ذلك السجن بالفعل، لكن بُني غيره، مما هو أبشع منه مثل سجن العقرب.. وشديد الحراسة.. وغيرهما. ويحدث في تلك السجون ما يشيب لهوله الولدان.
وعلى الشاكلة نفسها جرى إغلاق سجن «المزة» في سورية في إشارة تحاول استدعاء التأييد الشعبي ودغدغة مشاعر المرعوبين.. ليس المهم هدم سجن أو إغلاقه.. المهم تعديل النظام السياسي الذي يمنع الاعتقال العشوائي وسجن المعارضين السياسيين ويفتح الأبواب لمشاركة الجميع دون استثناء، ويفرغ السجون والمعتقلات من نزلائها الأبرياء.
ولو لم يحدث ذلك فسيفتح بدل «المزة» «مزات» وسيقول الناس :
رُبَّ سـجـنٌ بكـيتُ فيـه فلـمـا .. سُجِـنتُ في غيـره بكيـتُ عليـه
على وزن ما قال الشاعر :
رُبَّ زَمَــانٌ بكيـت منــه فلمـا .. صِــرْتُ فـي غـيره بكيت عليــه . <
No comments:
Post a Comment